مشروع "إسرائيل الكبرى"- صراع حضاري وإبادة في فلسطين

المؤلف: د. سلمان بونعمان08.24.2025
مشروع "إسرائيل الكبرى"- صراع حضاري وإبادة في فلسطين

عندما يُعلن بنيامين نتنياهو بصراحة تامة: "أشعر بأنني أقوم بمهمة تاريخية وروحية... وأنا مرتبط بشكل وثيق برؤية إسرائيل الكبرى التي تتضمن فلسطين وأجزاء من الأردن ومصر"، فإن هذا الأمر يتخطى كونه مجرد تصريح سياسي عابر أو خطاب موجه للاستهلاك الإعلامي الظاهري.

فهذا الإعلان يفتح أفقًا واسعًا على الأسس العميقة للمشروع الصهيوني، ويكشف أن صميم الصراع لم يكن أبدًا مجرد منافسة على حدود جغرافية ضيقة أو موارد اقتصادية محدودة، بل هو في جوهره صراع حول العقيدة والهوية والسردية والمشروع الحضاري الشامل.

القراءات الوضعية والبعد الحضاري المغيب

هذه العبارة الصريحة وحدها تكفي لتقويض مجموعة واسعة من التحليلات العلمانية المادية والرؤى الواقعية العقلانية التي سعَت، على مر العقود، إلى اختزال الكيان الصهيوني في صورة "دولة علمانية حديثة" تعمل وفق اعتبارات الأمن والمصلحة المادية الضيقة، أو تفسير مشروعه في إطار منطق التوازنات الإقليمية والواقعية السياسية.

بل يتضح أننا أمام رئيس وزراء يقدم نفسه كزعيم ديني وقائد ملهم في مهمة تاريخية إلهية لتحقيق الحلم الصهيوني الأكبر والأوسع.

إن إغفال البعد الثقافي الحضاري في فهم المشروع الصهيوني يمثل نوعًا من التواطؤ المعرفي مع روايته أو عدم الانتباه التأويلي لجوهر هذا المشروع؛ إذ يؤدي إلى تفريغ الصراع من جوهره الحقيقي وتحويله إلى نزاع حدودي بسيط وتهديد أمني يمكن "التعامل معه" من خلال تسويات فنية أو مفاوضات محدودة الأفق والتأثير.

ويفرض تصريح نتنياهو على التحليلات الجادة أن تتجاوز قيود النماذج الوضعية الضيقة، وأن تتبنى مقاربة "جيوحضارية" معقدة تنظر إلى الصراع بمنظور شامل باعتباره:

  • صراعًا دينيًا حضاريًا عميقًا: يعيد تشكيل الجغرافيا والتاريخ بناءً على نصوص مقدسة وتفسيرات دينية محددة.
  • مشروعًا استعماريًا استيطانيًا: يهدف إلى محو الشعب الفلسطيني من الوجود وإعادة تشكيل المجال السياسي والديمغرافي بشكل كامل.
  • رهانًا جيوسياسيًا استراتيجيًا: يتقاطع مع مصالح القوى الكبرى ويعيد توزيع موازين الهيمنة والنفوذ في المنطقة.

إن الأمر الخفي في خطاب "إسرائيل الكبرى" هو ترسيخ التصفية النهائية لمشروع "الدولة الفلسطينية" وتعزيز خيار إخفاء فلسطين، سواء التاريخية أو تلك التي تستند إلى حدود عام 1967.

والأكثر خطورة من ذلك يكمن في السعي إلى إحداث تغيير قيمي وفكري عميق في المجتمعات العربية بحيث يصبح الكيان الصهيوني مقبولًا لدى الشعوب، مما يخلق حالة نفسية وأخلاقية وحضارية من قبول الاحتلال والاستسلام لواقع توسعه وقوته، مع الإلغاء التام لفلسطين: كفكرة وعقيدة وأرض وشعب وقضية جامعة.

الأهداف الإستراتيجية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول

تتجاوز الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية نطاق الردع العسكري المباشر، لتتجسد في مشروع شامل يهدف إلى فرض التفوق والسيطرة وإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية في المنطقة، وفقًا لمنطق يخدم مصالح المنظومة الإمبريالية الغربية ويعزز تحالفاتها مع "الصهيونية الغربية" و"الصهيونية اليهودية" (ذات الطابع الديني القومي).

وهنا نتذكر تصريح ترامب عندما قال: "مساحة إسرائيل تبدو صغيرة جدًا على الخريطة، وكنت أفكر دائمًا في كيفية توسيعها".

ويمكن تحديد هذه الأهداف على أربعة مستويات:

  1. ترسيخ التفوق الأمني والتكنولوجي المطلق: إعادة تشكيل البيئة الأمنية باستمرار من خلال تعزيز تفوق استخباراتي وتقني غير مسبوق.
  2. فرض الهيمنة الإقليمية الكاملة: القضاء على أي محاولة لبناء قدرات علمية أو إستراتيجية عربية إسلامية مستقلة قد تهدد وجود المشروع الصهيوني.
  3. إحباط أي نهضة حضارية عربية إسلامية: عن طريق إشعال الصراعات الطائفية والهوياتية وتعميق التجزئة والتوترات الداخلية.
  4. تفكيك القوة الناعمة للشعوب: من خلال إعادة تشكيل الوعي الجمعي العربي والإسلامي، وتطبيع الوجود الصهيوني وتهميش أي سردية تحررية بديلة.

إن الأهداف المذكورة ليست سوى خطوات متكاملة فيما بينها وتصب في اتجاه أوسع لتشكيل هيكل تدميري موحد، حيث أن التفوق الأمني والتكنولوجي والهيمنة الإقليمية وإحباط أي نهضة حضارية، كلها أدوات مترابطة في مشروع شامل للهيمنة الحضارية، وبذلك يصبح مشروع "إسرائيل الكبرى" هو الإطار الشامل الذي يوظف هذه المستويات الأربعة لإعادة هندسة المنطقة وإخضاع شعوبها.

مشروع إسرائيل الكبرى وإسرائيل القطب

كل ذلك يستلزم وعيًا استراتيجيًا شاملاً بآليات التعامل مع مشروع إبادي استيطاني يسعى إلى الهيمنة وتقسيم المنطقة، والاستمرار في تنفيذ الإبادة الجماعية والتهجير القسري والمزيد من الاستيطان، بهدف بناء ما يُعرف في الأدبيات الصهيونية باسم "مشروع إسرائيل الكبرى" أو "إسرائيل التوراتية".

وهذا يعني إعادة تأسيس ما يمكن تسميته بـ "إسرائيل القطب" التي ستسعى إلى السيطرة الكاملة على المنطقة، وإخضاع جميع القوى الفاعلة فيها.

إن هذا الكيان لا يخفي طبيعته الاستئصالية؛ فهو يمثل "الشر المطلق"؛ لأنه يستمد قوته من منطق القوة الوحشية والانتقام الديني الحضاري، ويقوم على رفض شامل لكل منظومة قيمية أو أخلاقية أو إنسانية، باستثناء منطق التفوق العنصري وهيمنة المركز الاستعماري وتأليه الذات.

إن خطابات نتنياهو وأفعاله، قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول وبعده، تعتبر مدخلاً أساسيًا لفهم المشروع الصهيوني من الداخل، بعيدًا عن الأقنعة الدبلوماسية والتبريرات المضللة.

ويجب على النخب الفكرية العربية أن تدرك أن مواجهة هذا المشروع ليست مجرد معركة عسكرية أو مفاوضات سياسية، بل هي معركة وعي حضاري قيمي تهدف إلى إعادة بناء الذات وتحقيق المناعة الروحية والفكرية والرمزية للأمة.

لا يمكن فهم السياسات الإسرائيلية إلا في سياق مشروع حضاري معقد للهيمنة، يزدهر على التفكك العربي وغياب مشروع نهضوي شامل. إن مواجهة هذا المشروع من خلال موازين القوى العسكرية وحدها تظل غير كافية مهما بلغت أهميتها، إذ يتطلب تفكيك بنيته الرمزية والوظيفية والقيمية وكشف الأسس الفكرية التي يقوم عليها.

غزة: أيقونة الصمود الحضاري

في مواجهة مشروع إبادي لا يعترف بحقوق الفلسطينيين، بل ينكر وجودهم بشكل كامل، تقف المقاومة الشاملة كتعبير عن إرادة البقاء ورفض الظلم والاستبداد ورفض التهويد والاحتلال.

وفي هذا السياق، لا يمكن أن نقتصر في فهم الصهيونية على اعتبارها قوة مادية فقط، بل يجب إدراكها كمنظومة رمزية وسياسية وثقافية تعمل على التحكم في التحولات واحتكار الرواية وتفكيك المعنى.

وهنا تظهر غزة كرمز للعناد الإنساني والصمود الأخلاقي، في مواجهة آلة تسعى إلى إنكار التاريخ وتدمير الذاكرة وتشويه الرواية ومحو حقوق الشعب الفلسطيني واقتلاعه من وجوده المادي والمعنوي.

غزة، على الرغم من أنها بقعة جغرافية محاصرة، إلا أنها أصبحت رمزًا عالميًا للعصيان الإنساني ضد الاحتلال والتجويع الإبادي والانهيار الأخلاقي الذي يسعى إلى تحويل الإنسان المستعمر إلى شيء وتجريده من إنسانيته، كما أوضح فرانتز فانون.

لذلك، يجب التنبيه إلى أن الصهيونية لا تكتفي بسرقة الأرض، بل تشن حربًا معرفية روائية من خلال اختطاف اللغة وتزييف المعنى وإفراغ الروح، كما تهدف إلى إعادة تشكيل وعي الفلسطينيين والعرب، وفي الوقت نفسه، تسعى إلى صهينة العالم رمزيًا ومعرفيًا من خلال السيطرة على الهياكل العميقة للروايات الكبرى التي قامت عليها الحداثة الغربية نفسها.

وبالتالي، توفر غزة فرصة تاريخية لتحرير الضمير الغربي من الصهيونية، وهو ما يمثل في جوهره تحريرًا للحداثة ذاتها من نزعتها الإبادية.

هنا تصرخ غزة بكل ألم ويقين: إن الصمود هو فعل روحي حضاري قبل أن يكون ماديًا، والفلسطيني ليس ضحية مستسلمة، بل هو ذات مقاومة تتحدى هندسة الإبادة والاستيطان.

لكن هذا الصراخ لا يخاطب العرب والمسلمين وحدهم، بل يضع الضمير الغربي أمام اختبار تحرره من الارتهان للصهيونية، كشرط لإنقاذ إنسانية الحداثة نفسها من السقوط الأخلاقي وإعادة ربطها بقيم العدالة والكرامة والحرية.

خاتمة

إن فلسطين اليوم تعيد توجيه البوصلة الأخلاقية والتحررية للأمة بأكملها، لتؤكد أن هذه القضية هي معركة وجود وكرامة وهوية وعقيدة.

فالمستعمر لا يسعى إلى تحقيق النصر العسكري فحسب، بل يسعى أيضًا إلى إعادة تشكيل وعي المستعمر وتحويل الخوف من قمع الاحتلال والندم على مقاومته إلى مادة وراثية في الذاكرة الجماعية للأمة.

هنا يتجلى جوهر المشروع الصهيوني الاستراتيجي: إلحاق الهزيمة بالشعوب نفسيًا وحضاريًا قبل هزيمتها عسكريًا، مما يحقق له الردع الثقافي والنفسي وإحكام السيطرة الرمزية في المنطقة.

وهكذا يتضح أن طرح مشروع "إسرائيل الكبرى" يتجاوز كونه مجرد خريطة جغرافية توسعية، بل هو حلم توراتي ورواية لاهوتية تعبوية، تنشط بها الصهيونية روحيًا ورمزيًا وتتجدد فكريًا وحضاريًا، وتسهم في التعبئة الذاتية والتحريض الأيديولوجي لأتباعها، ضمن مشروع حضاري إبادي يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفقًا لمنطق استئصالي شامل للفلسطينيين أولاً، ثم لبقية المقاومين والمعارضين في العالم الإسلامي، ويمتد إلى جميع مكونات الأمة العربية والإسلامية.

ومواجهة هذا المشروع تتطلب وعيًا استراتيجيًا شاملاً بآليات التعامل معه، حيث أن المعركة في جوهرها معرفية حضارية، وتتطلب استعادة المشروع التحرري النهضوي ببعده الحضاري، وربط الوعي بالفعل، لمواجهة صناعة الخوف والندم ونظام الترهيب باعتبارهما صناعة استعمارية منظمة، والتأكيد على أن المقاومة ليست خيارًا مؤقتًا، بل هي قدر حضاري ونموذج شامل للوقوف في وجه موجة الشر المطلق.

فالمعركة الحقيقية والحاسمة للأمة تتجلى في كسر روايته قبل كسر قوته.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة